لا يجعلك العالم الافتراضي تغفل عن شيء تقريباً. وكلّ الأيّام التي ما كانت تعني لك شيئا تغدو جزءا من صفحة استقبالك، وأنت تفتح محرّك البحث، أو تلج موقعا من مواقع الوسائط الاجتماعيّة. فيوم للعشّاق، وآخر للأمّهات، وثالث للبيئة.. وقبل أيّام قلائل، كان يوم اللّغة العربيّة.
جاء في الحديث قوله "إنَّ العربيَّةَ ليست لكم بأبٍ ولا أمٍّ إنَّما هي لسانٌ فمن تكلَّم بالعربيَّةِ فهو عربيٌّ". والحديث ورد في كتاب متأخّر، هو تاريخ دمشق لابن عساكر الذي توفّي في نهاية القرن السّادس الهجري. ولا وجود له في كتب الحديث المشهورة، كالصّحاح وغيرها. ولذلك وصفه أهل علم الحديث النّبويّ بأنه حديث مرسل (لعدم وجود صحابيّ في طرف إسناده)، وغريب (جاء من طريق واحدة)، فالحديث إذن من الزّاوية الدّينيّة غير ذي مصداقيّة قويّة. والأرجح أنّه مختلق، والذي اختلقه، أكان شخصا مفردا أم كان جماعة طوّرته مع الزّمن، لا يمكن وصفه بأنه مجرّد واضع بسيط، اختلق حديثا ضعيفا، فقد بناه على هيئة قصّة. وفي هذه القصّة شاهد قيس بن مطاطية، وهو رجل التصق بهذا الحديث فلا يُعرف شيء عنه تقريبا عداه، حلقة اجتمع فيها بلال الحبشي وسلمان الفارسي وصهيب الرّومي، فتساءل عن علاقة هؤلاء بالعرب والإسلام قياسا إلى الأوس والخزرج، أو قياسا إلى القرشيّين قائلا: "هؤلاء الأوسُ والخزرجُ قاموا بنُصرةِ هذا الرَّجلِ فما بالُ هؤلاء؟". ويسرد الرّاوي بعد ذلك غضب معاذ بن جبل، وإمساكه بتلابيب الرّجل، وإخباره النّبيّ بما قال، فيجمع النّبيّ النّاس ليقول لهم يا أيُّها النّاسُ إنَّ الرَّبَّ ربٌّ واحدٌ، وإنَّ الأبَ أبٌ واحدٌ وإنَّ الدِّينَ دينٌ واحدٌ"، ثمّ يذكر لهم الحديث الذي انطلقنا منه أعلاه.لا يحتاج الأمر في الحقيقة إلى جهد عميق لنتبيّن ما في الحديث من أثر الصّنعة، فابن مطّاطيّة الغريب هذا، والحلقة التي ضمّت ثلاثة وجوه تأسيسيّة في الإسلام، كلّ وجه منها سليل حضارة مختلفة، وحضور معاذ بن جبل الأنصاري الخزرجي، المشهور في التاريخ الإسلامي بأنه من
أوائل العمال الذين اشتغلوا مع النّبيّ، وكان يُذكر بمعرفته العميقة بالحلال والحرام؛ كلّ ذلك يخبر بعمل تأليفيّ ذي خطّة وأهداف محدّدة. وحين نعرف أنّه في منعطفات كثيرة من تاريخ الإسلام ثارت الشّعوبيّة، وتنابز أصحابُها بالمثالب، فذمّ غيرُ العرب العرب، وذمّ العربُ الموالي والأعاجم، نتبيّن أنّ الحديث أعلاه قد يكون وُلد في قلب الصّراعات الشّعوبيّة. والرّاجح أنّ قائله ليس عربيّ الأصل، وخلف صياغته المتقنة للحديث دفاعٌ عن حقّ غير العرب في اكتساب العروبة باكتساب لسانها، وإيحاءٌ لا يخفى بأنّ جهة مقابلة لصاحب الحديث، وفي مواجهة موجاتٍ كثيرة من التّعرّب، أخبرت عنها كتب التّاريخ الإسلاميّ القديم، تسعى إلى بناء ما يمكن توصيفه مركزيّة عربيّة، أساسُها العرق، لا اللّسان. لذلك كانت الدّعوة المنسوبة في الحديث إلى النّبيّ واضحة: العربيّة بابٌ إلى أن يصبح غير العربيّ عربيّا. وكان حضور سلمان الفارسي وبلال الحبشي وصهيب الرّومي مدعومين من معاذ بن جبل، ومن النّبيّ نفسه إشارة لا تخطئها العين إلى هذا التّعدّد العرقي في قلب نشأة الدّين الجديد، وإلى أنّ العربيّة التي يتكلّمها جميعهم هي رباطٌ لسانيّ مكتسب، وليست أمارة خصوصيّة عرقيّة تورّث.يصعب أن نجد الكثير من الإفادة التّاريخيّة، ونحن ننبش في سير هؤلاء، فالتّاريخي والخيالي متداخلان إلى أبعد حدّ في أخبارهم. لكن ما ثبت في الذّاكرة العربيّة الإسلاميّة عامّة أنّ كلّ واحد منهم جسّم مسارا من مسارات البحث عن السّكينة الرّوحيّة خارج ما ورثه عن الآباء والأجداد. وكان الانتماء الأصلي إلى السّودان، أو إلى فارس، أو إلى الرّوم، هو انتماء إلى
حضاراتٍ وألسن وأديان. وكان اتّصال هؤلاء بالعرب عبر مداخل الحيرة الرّوحيّة كما في مثال سلمان الفارسي، وعبر مظلمة الاسترقاق كما في حال بلال، وعبر لحمة الولاء كما في حال صهيب تعبيرا عن تجارب شخصيّة متباينة كلّ التّباين، ومناشئ عرقيّة ودينيّة لا يصل بينها إلّا القليل. ولكن ما يوحّدهم في تواصلهم مع الدّين النّاشئ وجماعة الذين آمنوا حيرة روحيّة عابرة للحضارات القائمة، بما في ذلك حضارة العرب قبل الإسلام، وهي حيرة وحّدت العربي في شخصٍ كالنّبيّ محمّد، والفارسي في شخص سلمان، والحبشي في شخص بلال بن رباح، والرّومي في شخص صهيب بن سنان.يعني ذلك أنّ صناعة هذا الحديث كانت في مواجهة، لا دعاوى تفوّق العنصر العربي وحدها، وكان لها في التراث القديم مدافعون كثر، بل أيضا في مواجهة اعتبار العروبة حقيقةً عرقيّة، لا يغيّر منها تعرّب لسان أحدهم أو إسلامه، فالعربيّ عربيّ أبدا، وغير العربيّ لا سبيل له مطلقا إلى أن يصبح عربيّا، ولو كان في معرفة اللّغة العربيّة كسيبويه الفارسي.لذلك تمّ استدعاء شخصيّات مؤسّسة في الإسلام، تعلّقت بكلّ واحد أخبار استثنائيّة في مسار البحث عن الخلاص الرّوحي، وجميعهم في المرويّات التّراثيّة الإسلاميّة وجدوا السّكينة في رحاب الدّين الجديد. وقد تمّ استدعاؤها لغايتين متكاملتين كلّ التّكامل: الأولى ضرب المركزيّة العربيّة في منبتها، عبر الاحتماء بشخص نبيّها نفسه، وإنطاقه أنّ التّعرّب ليس معطىً عرقيّا، بل هو معطىً ثقافي لا يهب الإنسان أيّ امتياز عنصري، وهو فوق ذلك معطىً ثقافيٌّ مفتوح،
ميسور الاندماج فيه يسر إتقان لسان أهله الأوائل. والغاية الثّانية التّذكير بأنّ الإسلام نفسه ولد في قلب التّعدّد، وكانت الأعراق المختلفة في جذور نبتته، وهي التي وهبته المعنى الذي صار به في عشريّتين قادرا على حركة اتّساع مذهلة. وهي الأعراق ذاتها التي ستسهم جوهريّا، لا في بناء علوم اللّسان العربي فحسب، بل في بناء علوم الدّين جميعا، وعلى رأسها علم الحديث جمعا وغربلة وشرحا. ويصعب اليوم، إلّا بسوء نيّة فادحة أن تنسب حضارة الإسلام بكلّ مكوّنات عمرانها إلى عرق دون عرق. وليست العربيّة التي خُصّص لها يوم احتفاء لغة عرق محدّد، وإنّما هي لسان جامع ازدهرت بالتّعدّد، والقدرة الحضاريّة على إدماج غير العرب، وغير المسلمين، وأصابها كثير من الجمود بجمود حيويّة الاجتماع الإنساني الذي كان يعيش بها ويجعلها تعيش.بُعيد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، ازدهر الطّلب على تعلّم اللّغة العربيّة. ولكنّ ذلك لم يكن لأنّها تشير إلى لسان حيّ، يحتاجه أصحاب الطّلب كي يكون مدخلاً إلى علوم العصر، وإنّما لأنّهم أرادوا، لغاياتٍ مختلفة، فهم الدّين الذي تعبّر عنه، والذي اقترن في أذهان معظمهم بالوحشيّة، ورفض العالم، وانكفاء مدقع على خصوصيّاتٍ يندُر الانتباه إلى أنّها في أعماقها تغلي بالتّعدّد اللّساني والعرقي والدّيني.كان اشتغالي زمناً طويلاً على الدّين واللّغة ينبّهني باستمرار إلى أنّ قلبهما وُلد في التّعدّد اللّساني والعرقي والحضاري عامّة، وأنّ استمرارهما حيّين مرهون بتذكّر هذه الحقيقة، لا باعتبارها ماضيا انقضى، بل باعتبارها أفقا يصلنا بالإنسانيّة.
