منتدى معلمي الاردن
(نسخة قابلة للطباعة من الموضوع)
https://www.jo-teachers.com/forum/t6621
أنقر هنا لمشاهدة الموضوع بهيئته الأصلية

لمدرسة ومعلّم ونافذة
بيسان القدومي 30-11-2019 02:32 مساءً

في الصباح

العينُ متأهبةٌ في مَحجِرها ما إن يتباعد الجفنانُ مقدارَ شعرةٍ حتى تُمسِكَ بخيطِ الضوءِ القادم إليها كأنَّه طوقُ نجاة ثم حين يُطبِقُ الجفنُ لحظةً ترسل الخيط بين الرموش وتبدأ بحياكة يومٍ جديد. قدمان عاريتان على الأرض كتبٌ ثابتةٌ في تبعثُرِها أقلامٌ هاربةٌ من الحقيبة خريطةُ الدنيا مائلةٌ على محورها بعد أن سقط ثالثُ مساميرها ضوء الشمس يدخلُ خلسةً من زاويةٍ مستحيلة يسعى إلى نبتةٍ خضراء ليست هنا فأُمسِكُ به مُتلبِّساً ليلتي

*

على وجهِ كوبِ الشاي سحابةٌ بيضاء من أصولٍ كونية تتمايلُ بهدوءٍ ثم تختفي أُلصِقُ الخبز الرقيق البارد على المدفأة المعدنية المكوّرة أنساهُ في احتراقه البطيء أستعجلُ إليه أصابعي الخَدِرة أُخلِّصهُ من عناق المدفأة الحارق حارّاً شهياً مكوّراً سريراً لزُبدةٍ متجمّدة تذوب أنهاراً وسواقي ذهبية أُمطِرها بجبنٍ مالحٍ كالصخر أرسلها جميعها بين أسناني فتلتقي هناكَ بشايٍ أحمر يستحي العسلُ من حلاوته تتقلّب جميعها قاسيها وليّنها حُلوها ومالحها تختلط قرقعَتُها مع صوتٍ جافٍّ قادمٍ من المذياع يعلنُ حرباً في الأفق أبتلِعُها جميعها دُفعةً واحِدةً تَعلقُ على لساني أخبارٌ بالكادِ يذكرها مُقدِّم الأخبار فأدفعها برشفةٍ أخيرةٍ فاترة

*

تُمسِكُ الحقيبةُ بكتفَيَّ كأني حِصانُها تقودَني بحذرٍ بين قطراتِ النَّدى المتجمِّدة فوق عُشبٍ ينتظرُ الشَّمس تَتشابكُ أقلام التلوين الخشبية بين دفترٍ وكتابين على إيقاع قفزاتي وانزلاقاتي لتجعلَ من صفحاتِها معارِكَ ألوانٍ لا يفصل بينها إلا خطوطٌ من الرصاص الرمادي. أقطعُ شوارعَ قصيرةً ضيّقة مستقيمةً متوازيةً متعامدة لا يقبلنَ أيَّ انحناءٍ قد يَحيدُ بي عن مستقبلٍ مشرق ينتَظِرُني مُعلَّباً في مُكعَّبِ المدرسة.

أسيرُ إليها مؤمناً مُغمَض العينين.

■ ■ ■

المدرسة

مدرستنا نموذجية مربعٌ مغلقُ الآفاق في مركزه مكعبٌ ثلاثيُّ الأبعاد يتوسّطهُ رجلٌ أحاديُّ الوجه مشمئزٌ من اختلالِ توازينا إلى عَلمٍ ممزَّق تتشبث خيوطه الأخيرة بقضيبٍ حديدي فارغٍ وصدئ تصطفّ قاعاتُ الدرسِ واحدةً تلوَ أخرى كعربات قطار مهجور في داخل كلٍّ منها لوحٌ أخضر ومقاعد بُنّية ونافذة يمتدّ اللوح من الباب إلى النافذة ليتَسِعَ لكلِّ علومِ الأرض والسماء تمتدُّ المقاعدُ من البابِ إلى اللانهاية لتتّسعَ لجيلين أو ثلاثة أمَّا النافذةُ لطخةٌ صفراءُ في هذا الفراغِ الرمادي تهربُ إليها نظراتنا كلَّ لحظتين فتعلق في شبكتها الحديدية التي تمنعنا كلَّ لحظةٍ من أن نقفز إلى المجهول تظلُّ معلَّقةً هناك حيناً حتّى تهترئ كأدعيةٍ منسيةٍ على نافذة نبي.

بين النافذة والأفق هناك جبلٌ وبحرٌ وصحراء تتلاحقُ أمامَ نافِذَتنا لا سرعةً ثابتةً لها أو مَداراً أو مكان. يمرُّ الجبل يلحقهُ البحرُ أو البحرُ يلحقُ الصحراءَ هابطةً من الجبلِ نحو بحرٍ يحاول اللّحاق بها أو تتراءى جميعُها أمامنا إذا ما وصلت عيوننا إلى النافذة في ذات الآن ثم تعود إلى محاجرها سالمةً تنتظر مرور الخمسين دقيقة الأخيرة من درسٍ لم يبدأ بعد.

■ ■ ■

في الجغرافية

يعشق معلِّمُ الجغرافية انزياح القارات يزعم أنَّ أفريقيا تهجمُ على أوروبا كلَّ عامٍ مقدار إصبع فترفعُ الأخيرةُ في وجهها جبالاً لا يغيب عنها الثلج يعتقد مخلصاً أنَّ القارَّات والبلدان كانت واحدةً وأنَّها سَتعودُ كذلك يوماً ما كما يعتقدُ أن الأرضَ كرويةً أو تكاد وأنَّ رجالاً من بلدٍ بعيد داسوا بأقدامهم وجه القمر. نصمُت ثم ننفجرُ ضاحكين ما إن يخرُجَ بصُحبة أقماره وكواكبها. في اللَّيل، أحلمُ أنَّني أمتطي جزيرةً صغيرة نبتَت عليها نخلةٌ ودُبٌّ وبطريق وما إن ينقضي اللَّيل حتّى نَصِلَ إلى أرضٍ جديدة كانت قد وطِئتها قدم جدّي حينما كان القمر لا يزال صخرةً يرتكي إليها ياسمينُ البيت.

■ ■ ■

في الرياضيّات

يعشقُ معلِّمُ الرياضيّات الرسم فما إن يحدِّثنا عن خُزعبَلات أولئِك الإغريق حتّى تزهرُ على اللَّوحِ دوائر زرقاء تتخللُها مثلثاتٌ بيضاء تعبُرُها متوازياتٌ لا تلتقي أبداً حتّى لو مددناها إلى نهاية الكون في الطابقِ الثالثِ من المدرسة يضغط بإصبعه الكلسية على الأضلاع الباهتة فيتساقط كالثلج أسفل اللَّوح ثم ليُميِّزَ المُنفرِجات من الحادَّات يضغَطُ بالأحمر فيُمطِرُ أقحواناً على الثلج الأبيض كأنما أزهرَ سهواً في زاويةٍ ربيعيةٍ أواخر شباط المجنونة ينتظرُ لحظاتٍ حتّى ننهي الرسم وحساب الزوايا ثم يُثبِتُ لنا بالحُجَّةِ والبرهان أن لا سَكينة في هذا الفراغ.

■ ■ ■

في التاريخ

يعشق معلِّمُ التاريخ الحساب يرصف الطريق بيني وبين أباطرة روما وبابل بأرقامٍ صحيحةٍ تتلامسُ واحداً تلو الآخر تتقدم تراجعاً حتّى صفر الميلاد ثم تَكبرُ مُسرعةً نحوي كشظايا انفجارٍ كبير لكنه يُمسكُ بها قبل أن تطاولني يثقِلُها بأحداثٍ وفتوحاتٍ ومقتلات فتغرقُ في مكانها كقاربٍ من الرصاص. على سهم الزمن يطرحُ الماضي من الحاضر يجمعُ الأمم ويقسِّمُها يرتبها تباعاً ثم يُنزِلُ عليها الوقائع متلاحقةً فتبدو سنواتي أقصرَ من ذيلِ حصانٍ يموت مللاً أمام أبواب القسطنطينية.

■ ■ ■

في الموسيقى

تعشق معلِّمةُ الموسيقى مفتاح الصول تبالغ في مَشقِهِ وتكويرهِ حتّى يبدو كعملاقةٍ حُبلى بسبعة توائم في شهرها الأخير تُعامِدُ عليه خطوطاً خمسةً متوازية تزيِّنُها بسوداء وبيضاء ومستديرة ثم تصمت بانتظار أن يصلها رنينُ المفتاح أو تموُّج الخطوط نبحثُ في عينيها عن نغماتٍ عتيقةٍ تعرِفُها جيّداً لكنها تُطلِق جميع الأصواتِ عبر النافذة نحو جبلٍ بعيدٍ مُمسِكٍ بالأفق فلا يبقى لنا إلا صمتها مُشرَّعاً على لوحٍ أخضر.

* شاعر ومسرحي سوري مقيم في فرنسا



منتدى معلمي الاردن

Copyright © 2009-2024 PBBoard® Solutions. All Rights Reserved